أمحجور يكتب: إعادة الإعمار.. فيض رباني أم دينامية جماعية..
محمد امحجور

يعيش حزب العدالة والتنمية وضعا مأزوما وحالة اضطراب لم يسبق له أن مر بهما، ومرد ذلك بالأساس إلى السحل الانتخابي والسياسي الذي تعرض له يوم 8 شتنبر 2021 والذي لم يكن يتوقعه حتى ألد خصومه.
ليس مهما اليوم التوقف كثيرا عند النتائج التي حصل عليها الحزب، فقد صارت واقعا لا يرتفع، بالرغم من أنه وبعد مرور وقت كاف، فإن كثيرا من المتابعين والمهتمين لا يصدقون اليوم أن الوزن الانتخابي والسياسي لحزب العدالة والتنمية هو أربعة مقاعد في مجلس النواب من أصل 305 مقعد للدوائر المحلية، كما لا أحد يصدق أن كسبه التدبيري للمدن الكبرى والمتوسطة والصغيرة يساوي صفر رئاسة، فهذا الأمر ما كان له أن يقع إلا إذا كان أبناء العدالة والتنمية قد أمضوا ست سنوات في “رمي المواطنين بالحجارة” آناء الليل وآناء النهار. ولذلك ستظل نتائج الثامن من شتنبر نتائج غير مفهومة وغير منطقية.
لكن هل هذا يعني أن حزب العدالة والتنمية لا يتحمل أي مسؤولية فيما وقع؟ الجواب بدون تردد هو لا وألف لا. فالمسؤولية الذاتية فيما وقع حاصلة وثابتة. فإضافة إلى المسؤولية السياسية التي تحملتها الأمانة العامة السابقة والتي عبرت عنها من خلال استقالتها الجماعية عقب الإعلان عن النتائج، في تقديري أن هناك أسباب أخرى يمكن إجمالها اختصارا في ثلاث مستويات تحتاج إلى نقد ذاتي صادق ونزيه ومراجعات عميقة وبنيوية، وتتحدد هذه المستويات فيما يلي:
1- المستوى الأول فكري تصوري مرتبط بتمثل الحزب للسياسة من خلال قواعد وأصول ويقينيات “عقدية” متداخلة مع أصول الدين، مما أدى في كثير من اللحظات إلى تدبير المواقف والسياسات والاختلاف بشأنهما داخل الحزب ومع محيطه بقدر كبير من الاستعلاء والوثوقية أو التشنج أو التمترس خلف خطاب “إيديولوجي” لا ينسجم وطبيعة العمل السياسي الذي هو غالبا ما يكون مفاضلة بين المفاسد أدناها وأعلاها، وتحركا فوق رمال النسبية والاحتمال لا وقوفا فوق جبل اليقين ومبادئ الدين المطلقة. وقد أدى ذلك إلى انزياح متكرر لقيادات حزبية كبيرة ووازنة صارت تتحدث في الخلاف السياسي بمنطق مخالفة مقتضيات العقيدة أو المبادئ، مع أن السياسة إنما هي تدبير للممكن في ظل سياقات حاكمة وليست وحيا يتنزل أو فتوى دينية يصدرها فقيه، وهي اجتهادات في دوائر “الظَّنِّيات” لا استظهارا “للقطعيات”.
2- المستوى الثاني سياسي وخلاصته المركزة هي اضطراب الحزب في ضبط سلوكه السياسي على إيقاع النسق السياسي المغربي، ضبطا نافعا للإصلاح. ذلك أن المغرب وإن كان نظريا من خلال النص الدستوري يعطي صورة عن وجود نسق سياسي حديث ومتطابق مع كثير من المعايير الديمقراطية المتعارف عليها عالميا، لكن الواقع هو غير ذلك. ويمكن للمتابع للحزب أن يرصد في كثير من المحطات تناقضات بين خطاب يكثر من الحديث النظري عن خصوصيات النسق السياسي المغربي والدعوة إلى الوعي بذلك بل وتكرار “الوصية” المنبهة إلى عدم التساهل مع من يعبث في هذا الحقل، لكن في بعض المحطات نضع هذا الحديث جانبا وننتج خطابا ومواقف يعاكسان “حقائق” النسق السياسي و”يصطدمان” به ويخرجان منه ما كان من الممكن تفاديه.
3- المستوى الثالث تنظيمي داخلي مرتبط بحالة غير مسبوقة من الانقسام والاختصام التي عاشها الحزب منذ حدث البلوكاج وما تلاه. فقد شهد الحزب خلال هذه الفترة انجرافا لم يسبق له مثيل في هتك حرمة قواعد الاجتماع وضوابط العلاقات بين قيادات الحزب فيما بينها بشكل خاص وعموم أعضائه بشكل عام، وتمت الإساءة البالغة لعدد من قيادات الحزب ومناضليه. كما وقع الترويج لخطاب مشكك في القيادة ومهين لها، تمت إشاعته بطرق متعددة وملتبسة باعتماد قاعدة “لم آمر بها ولم تَسُؤْني”، وهو الأمر الذي نتج عنه مس كبير وعميق برأسمال حيوي يصعب استرجاعه، وهو الثقة وحسن الظن، فضلا عن الإضرار الجسيم بالقواعد الجامعة والمُؤَسِّسَة للعمل الجماعي والمؤسساتي داخل الحزب. مما أدى إلى إصابة “آلة الإنتاج” أو “أداة الإصلاح” بأعطاب كبيرة أدت إلى التقليص بشكل كبير من مردوديتها ونجاعتها، والأسوء من ذلك أنها هشمت بشكل مقدر صورة الحزب لدى فئات واسعة كانت تعتبر أحد مميزات هذا الأخير “نقاء” و “صدق” و “جودة” العلاقات بين قياداته أساسا، وعموم مناضليه بشكل عام.
الآن، وفي ظل الوضع المأزوم الذي نعيشه، يبدو من العادي والمنطقي الانكباب على مراجعة أوضاعنا بما يمكن من الاسترجاع المتدرج للعافية التنظيمية والسياسية. لكن السؤال المنهجي الأساسي الذي يطرح نفسه هو كيف ينبغي أن يتم هذا التمرين القاسي والعسير، خاصة إذا استحضرنا ما تعلن عنه القيادة الجديدة من حين لآخر من “أفكار” و “قرارات” في إطار محاولتها تصحيح مسار الحزب، وبغض النظر عن الموقف من المضامين المعلنة في هذا الصدد، التي قد نعود إليها في فرص قادمة إن شاء الله، فإن الانسجام مع مسار الحزب بشكل خاص، ومع مسار المشروع الإصلاحي الذي احتضن هذه التجربة حين انطلاق النسخة الثانية من الحزب، يقتضي الجزم بأن أي مراجعة في الحزب وللحزب لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلا إذا حصل اليقين بأن هذا المشروع منذ نشأته الأولى لم يمتلك يوما ما اختيارات وسياسات ومواقف وقرارات جاهزة للاستعمال “prêt à porter”، كما أن هذا المشروع لم يمتلك يوما شيخا واجب الاتباع، بل إن مناط وجوده الأول كان نقدا ذاتيا وثورة ضد المشيخة وضد الاستفراد بالرأي وبالقرار.
وصفوة القول إن أي مراجعة داخل الحزب ينبغي أن تستحضر أن هذا المشروع بني وحقق كل ما حققه من مكتسبات ومنجزات أولا وقبل كل شيء من خلال ركنين اثنين أساسيين هما:
1- سيادة وسمو الثقة وحسن الظن سواء بين القيادة فيما بينها، أو بين هذه الأخيرة وعموم الأعضاء، وللأسف فإن هذا الأمر قد تعرض إلى خسائر فادحة حتى لا نقول إنه تعرض لدمار شامل يقتضي إعادة إعمار كبيرة وصادقة ونزيهة.
2- اعتماد عدد من قواعد الاجتماع ومبادئ الاشتغال، ونذكر منها على سبيل المثال المشروعية والمُؤَسًّسِيَّة والالتزام بالقانون والمسؤولية بالانتخاب والقرار بالشورى وحرية التعبير والالتزام بقرار المؤسسات … وهي القواعد التي رَسُخت وصُقِلَت وشكلت وصفة منهجية كان يتم احترامها والاشتغال من خلالها في تدبير كافة القضايا والإشكالات وبلورة الخيارات والمواقف والقرارات.
ختاما، إن أي مراجعة في الحزب وللحزب، لا يمكن أن تتم بفتوى أو بفيض رباني بل بدينامية جماعية وصيرورة تتم من خلال هذه الأصول والقواعد المنهجية. غير ذلك هو إما طمع في محال أو نرجسية متعالية أو قرار بإنشاء حزب جديد لا علاقة له بالحزب الذي نعرف.